الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فى سورة يوسف ثلاث رؤى جاءت كوضح النهار. أولاها: ما قضه على أبيه أول السورة من سجود الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا، وسنعرف- بعدُ- تأويل هذه الرؤيا. أما الثانية فقد وقعت مع مبادئ عهده بالسجن: {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين}! والرؤى ضرب من الغيوب يتصل بالجانب الروحى من الإنسان، وهى- مع صدقها- ليست دلالة خير ولا شر، إنها دلالة قوة خارقة في الكيان البشرى يستشرف بها على ما يعجز غيره من الناس!. وأعرف رجلا كان في القاهرة، وأراد السفر إلى الريف رأى في منامه جنازة قريب له، والمشيعون حولها، وهى تخرج من دارهم متجهة إلى المقابر في موكب معين!. فلما سافر إلى القرية شاهد الموكب نفسه على النحو الذي رآه لم يختلف منه شئ... كانت الرؤيا حقا.. وأعرف من انكشفت لهم غيوب على هذا النحو دون سبب ظاهر، ومن ذلك الرؤية عن بعد فقد حكوا عن الفيلسوف الألمانى (كانت) أنه رأى حريقا على بعد أكثر من مائة ميل، وروينا نحن قصة عمر بن الخطاب الذي كان يخطب في المدينة، فسمع يقول: يا سارية الجبل!! وكان (سارية) أحد قواده، وقد رأى عمر العدو تختل المسلمين من ناحية الجبل، فصاح صيحته!!. قالوا: وقد سمعها القائد وهو في الجبهة، ونجا بجيشه!!. وليست لهذه الأحداث قاعدة مقررة، وإنما ذكرناها لتلقى ضوءا على ما وقع ليوسف، لقد سمع رؤى صاحبيه ثم تحدث عن نفسه: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء...}. إن يوسف معتز بعقيدة التوحيد التي ورثها عن آبائه، والتى صاحبته وهو يعبر مؤامرات القصور المترفة، والتى تصحبه الآن وهو داخل السجن!. وقد أبى إلا أن يتحدث عنها في سجنه داعيا رفاقه إلى الإيمان: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} إن ماعدا الله وهم لا حقيقة له، واسم لا مسمى له، فكيف نتعلق بالأوهام؟ ونظن الأصفار شيئا؟.والغريب أن الحضارة الحديثة كشفت الكثير من عجائب الكون، وعاينت من آثار العظمة العليا ما يدفع إلى الله دفعا.! ومع ذلك فهى واهية الصلة بالله، لا تفكر في لقائه، ولا تنتفع بوحيه، ولا تكترث إلا بضروراتها المادية. وما يرفه معيشتها على ظهر الأرض... وفسر يوسف الرؤيا الثانية: {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه..} مصيران متناقضان، هذا ما دلت عليه الرؤيا!!: {وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}. إن ساقى الملك غمرته أضواء القصر فنسى السجن وأيامه ورفاقه، ونسى الرجل المحسن البرئ المحبوس ظلما!. ولكن جد ما ذكر بيوسف بعد عهد طويل، فقد رأى الملك في منامه ما أفزعه، وعجز من حوله عن تعبير رؤياه، فقال الساقى: أرسلونى إلى السجن آتكم بالخبر اليقين: {يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون}. وفسر يوسف الرؤيا، وأخبر الملك بالتفسير المهم وهذه هي الرؤيا الثالثة، فقال: إيتونى بيوسف!! وأبى يوسف المجئ حتى تتحقق براءته وتمحى تهمته. ودبت الحياة في القضية الهامدة، وأحضرت النسوة العارفات بما حدث: {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}. وقال يوسف- بعد هذا الاعتراف- قاصدا إفهام الملك ما كان: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}!!. وشعر الملك أن يوسف أحق الناس بولاية الأمر في أثناء السنوات التي تتحقق فيها الرؤيا، إنه مستقبل شعب كبير، وأحق الناس برعايته من تنبأ به: {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}!! واختار يوسف لنفسه أن يكون وزيرا للمال مسئولا عن تموين الناس: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين}. ونلحظ أن يوسف عرض الخصائص النفسية والعلمية التي ترشحه للمنصب، فهو ليس عابدا عفيفا فقط، بل صاحب خبرة في شئون المال، يعرف كيف يحصله وكيف يوزعه. وقد أباح لنفسه طلب المنصب لأنه ليس هناك من هو أحق به منه، ومن المصلحة العامة أن توضع الأمور في يد القوى الأمين بدل أن توضع في يد عاجز قليل الخبرة..! وقد طلب خالد بن الوليد أن يقود المسلمين في معركة اليرموك، لأن غيره من القادة أعجز من أن يواجه فنون الروم العسكرية، والتجارب هنا فادحة الخطأ. لذلك طلب أن يمنح القيادة أول يوم، فأعاد تعبئة الجيش، ووضع خطة ذكية لمواجهة العدو، وكان النصر!!. إن طلب الإمارة خطيئة كبيرة يوم تكون استجابة لجنون العظمة، ورغبة في الوجاهة والاستعلاء.. وأغلب مصاب الأمم من أولئك المتطلعين المرضى. قدمت السنوات العجاف حسب رؤيا الملك وتفسير يوسف، ويظهر أن جدبها تجاوز وادى النيل إلى بادية الشام، فهرع أهلها يطلبون القوت من مصر التي استعدت لاستقبال الكارثة. وكان إخوة يوسف بين أولئك القادمين!: {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}. فأحسن وفادتهم، وتعزف على أحوالهم، وبعد تلطف مقصود طلب منهم أن يأتوا معهم بأخيه الشقيق في المرة التالية: {قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون} وفزع الأب لهذا الطلب وقال لبنيه: {هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين}. ولكن إلحاح الحاجة مع إلحاح الإخوة جعله يستجيب، ولما أرسله معهم- وهم ذاهبون للمرة الثانية-: {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}. ويظهر أن يعقوب خاف عليهم أن يتهموا بأنهم جواسيس دولة أجنبية، لأن منظرهم- وكانوا فوق العشرة- وامتداد قاماتهم، وفراهة هيئتهم، يجعلهم نهب الظنون!!. والتقى الكل عند يوسف الذي استقبل أخاه الشقيق استقبالا خاصا: {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون}!! ولابد أن يوسف علم من أحوال أخيه ما جعله بهذه الكلمة يواسيه!. ثم مكر يوسف مكرا حسنا بإخوته، واستطاع بالحيلة أن يحجز أخاه، وأن يفرض عليهم العودة إلى أبيهم بدونه، لقد خبأ المكيال في متاع أخيه، فلما عثرت الشرطة عليه آخذتهم بالجريمة وطردتهم.. وعلم يعقوب بأن شقيق يوسف قد فقد هو الآخر فصاح: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم}!!. والحق أن مصاب يعقوب جلل، فقد كان يحس في أعماق قلبه أن يوسف حى، وأنه عائد إليه حتما، فإذا هو يفقد ابنه الآخر، وتتضاعف عليه الآلام، فهو لا يرى هذا ولا ذاك...: {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}. وفى ضراعة أخيرة ورجاء باقٍ في الله قال: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون}. وخرج إخوة يوسف للمرة الثالثة إلى مصر، كانت قلوبهم منكسرة، وأحوالهم كئيبة، وذلتهم بادية: {فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} وأماط يوسف اللثام عن شخصيته بعدما لمس من إخوته هذا الهوان، وقال لهم في نبرة هزت قلوبهم، وأحيت الخامد من مشاعرهم: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون}؟: {قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}. ذكر يوسف سنة اجتماعية تشبه سنن الله الكونية! التقوى والصبر ينتجان النجاح، كما تقول: أوكسجين وإيدروجين ينتجان الماء، أو تقول: زوايا المثلث تساوى قائمتين. إنه بعد عشرات السنين من بدء الرواية أحس الجميع أن قوانين الله حق: {ومن أصدق من الله قيلا}؟.: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} إن الكبير لا يحقد، وهو بعد انتصاره يزداد سماحة وتواضعا لله، ثم قال يوسف لأخوته: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين}.وتحرك الركب من مصر إلى الشام، وفجأة سمع الذين حول يعقوب صيحة استبشار منه لا يعرفون مأتاها!! سمعوه يقول: {إني لأجد ريح يوسف} لولا أن تنسبونى إلى الحمق!. إن عالم الروح عجيب! كيف سرت البشرى إلى فؤاد يعقوب؟ كيف أحس بما وقع؟: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} وبعد أيام قلائل كان تأويل الرؤيا الأولى يتم كما تم تأويل الثانية والثالثة!!: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم}. بعد أن تمت القصة التي سرد القرآن أحداثها قال الله لنبيه محمد: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون}. نعم إنه ما كان لديهم فيرى، وما كان قارئا حتى يطالع أخبارها، إنه الوحى الأعلى قص عليه ما كان دون تزيد ولا تحريف، ومع ذلك فكثير من الناس مكذب بنبوة محمد. وفى عصرنا هذا طاعنون من الوثنيين والكتابيين لا حصر لهم، ولا ينقطع لهم لغو، ليكن!! فلن يوقفوا سير الرسالة الخاتمة: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}. إنهم مغلقون لا تقع عيونهم من الكون على ما يعرفهم بالله، أو يقودهم إلى وحيه: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}. اهـ.
.في رياض آيات السورة الكريمة: .فصل في أسرار ترتيب السورة: قال السيوطي:سورة يوسف:أقول: وجه وضعها بعد سورة هود زيادة على الأوجه الستة السابقة: أن قوله في مطلعها: {نحنُ نَقُصُ عَليكَ أَحسنَ القِصص} مناسبة لقوله في مقطع تلك: {وكلا نقُصُ عليكَ من أَنباءِ الرسل ما نُثبت به فؤادك} وأيضًا فلما وقع في سورة هود: {فبشرناها بإِسحاق ومِن وراءِ إِسحاق يعقوب} وقوله: {رحمة اللهِ وبَركاتهِ عليكُم أَهل البيت} ذكر هنا حال يعقوب مع أولاده، وحال ولده الذي هو من أهل البيت مع إخوته، فكان كالشرح لإجمال ذلك وكذلك قال هنا: {ويتمَ نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أَتمها على أَبويك مِن قبل إِبراهيم وإسحاق} فكان ذلك كالمقترن بقوله في هود: {رحمة اللَهِ وبَركاتهِ عليكُم أَهل البيت} وقد روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن يونس نزلت، ثم هود، ثم يوسف وهذا وجه آخر من وجوه المناسبة في ترتيب هذه السور الثلاث، لترتيبها في النزول هكذا. اهـ.
|